فصل: قال البيضاوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ} أي شابان، وقيل: هنا محذوف لابد منه وهو فسجنوه، وكان يوسف قد قال لأهل السجن: إني أعبر الرؤيا، وكذلك سأله الفتيان عن منامهما، وقيل: إنهما استعملاها ليجرباه، وقيل رأيا ذلك حقًا: {أَعْصِرُ خَمْرًا} قيل فيه: سمى العنب خمرًا بما يؤول إليه وقيل: هي لغة: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} قيل: معناه في تأويل الرؤيا، وقيل: إحسانه إلى أهل السجن: {قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} الآية: تقتضي أنه وصف لهما نفسه بكثرة العلم، ليجعل ذلك وصلة إلى دعائهما لتوحيد الله، وفيه وجهان: أحدهما أنه قال يخبرهما بكل مايأتيهما في الدنيا من طعام قبل أن يأتيهما، وذلك من الإخبار بالغيوب الذي هو معجزة الأنبياء، والآخر أنه قال: لا يأتيكما طعام في المنام إلا أخبرتكما بتأويله قبل أن يظهر تأويله في الدنيا: {ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي} رُوي أنهما قالا له: من أين لك هذا العلم وأنت لست بكاهن ولا منجم؟ فقال: ذلكما مما علمني ربي: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله} يحتمل أن يكون هذا الكلام تعليلًا لما قبله من قوله: علمني ربي أو يكون استئنافًا.
{ياصاحبي السجن} نسبهما إلى السجن إما لأنهما سكناه أو لأنهما صاحباه فيه، كأنه قال يا صاحبيَّ في السجن: {ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ} الآية: دعاهما إلى توحيد الله، وأقام عليهما الحجة رغبة في إيمانهما: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً} أوقع الأسماء هنا موقع المسميات والمعنى سميتم ما لا يستحق الألوهية آلهة ثم عبدتموها: {مِن سلطان} أي حجة وبرهان: {فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} يعني الملك: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا} الظن هنا يحتمل أن يكون بمعنى اليقين، لأن قوله: قضي الأمر يقتضي ذلك، أو يكون على بابه، لأنه عبارة الرؤيا ظن: {اذكرني عِندَ رَبِّكَ} يعني الملك: {فأنساه الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ} قيل: الضمير ليوسف، أي نسي في ذلك الوقت أن يذكر الله، ورجا غيره فعاقبه الله على ذلك بأن لبث في السجن، وقيل: الضمير للذي نجا منهما، وهو الساقي. أي نسي ذكر يوسف عند ربه، فأضاف الذكر إلى ربه إذ هو عنده، والرب على هذا التأويل الملك: {بِضْعَ سِنِينَ} البضع من الثلاثة إلى العشرة، وقيل: إلى التسعة، وروي أن يوسف عليه السلام سجن خمس سنين أولًا، ثم سجن بعد قوله ذلك سبع سنين.
{وَقَالَ الملك} هو ملك مصر الذي كان العزيز خادمًا له واسمه ريّان بن الوليد، وقيل: مصعب بن الريان، وكان من الفراعنة، وقيل: إنه فرعون موسى عمَّر أربعمائة سنة حتى أدركه موسى وهذا بعيد: {إني أرى} في المنام: {سَبْعَ بقرات سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} أي ضِعاف في غاية الهزال: {يا أيها الملأ} خطاب لجلسائه وأهل دولته: {لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ} أي: تعرفون تأويلها، يقال: عبرت الرؤيا بتخفيف الباء وأنكر بعضهم التشديد، وهو مسموع من العرب، وأدخلت اللام على المفعول به لما تقدم عن الفعل: {قالوا أضغاث أحلام} أي تخاليطها وأباطيلها، وما يكون منها من حديث نفس ووسوسة شيطان بحيث لا يعبر، وأصل الأضغاث ما جمع من أخلاط النبات، واحدة ضغث، فإن قيل: لم قال أضغاث أحلام بالجمع، وإنما كانت الرؤيا واحدة؟ فالجواب أن هذا كقولك فلان يركب الخيل وإن ركب فرسًا واحدًا: {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بعالمين} إما أن يريدوا تأويل الأحلام الباطلة، أو تأويل الأحلام على الإطلاق وهو الأظهر.
{وَقَالَ الذي نَجَا مِنْهُمَا} هو ساقي الملك: {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} أي بعد حين: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق} يقدر قبله محذوف لابد منه وهو فأرسلوه فقال: يا يوسف، وسماه صديقًا لأنه كان قد جرب صدقه في تعبير الرؤيا وغيرها، والصديق مبالغة من الصدق: {أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بقرات} أي فيمن رأى سبع بقرات وكان الملك قد رأى سبع بقرات سمان أكلتهن سبع عجاف فعجب كيف علتهن وكيف وسعت في بطونهنّ، ورأى سبع سنبلات خضر، وقد التفت بها سبع يابسات حتى غطت خضرته: {تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ} هذا تعبير للرؤيا، وذلك أنه عبر البقرات السمان بسبع سنين مخصبة وعبر البقرات العجاف بسبع سنين مجدبة فكذلك السنبلات الخضر واليابسة: {دَأَبًا} بسكون الهمزة وفتحها مصدر دأب على العمل إذا داوم عليه، وهو مصدر في موضع الحال: {فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ} هذا بأيٌ أرشدهم يوسف إليه، وذلك أن أرض مصر لا يبقى فيها الطعام عامين، فعلمهم حيلة يبقى بها من السنين المخصبة إلى السنين المجدبة، وهي أن يتركوه في سنبله غير مدروس، فإن الحبة إذا بقيت في غشائها انحفظت: {إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ} أي لا تدرسوا منه إلا ما يحتاج إلى الأكل خاصة: {سَبْعٌ شِدَادٌ} يعني سبع سنين ذات شدّة وجوع: {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} أي تأكلون فيهنّ ما اخترتم من الطعام في سنبله، وأسند الأكل إلى السنين مجازًا: {مِّمَّا تُحْصِنُونَ} أي تخزنون وتخبئون: {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ} هذا زيادة على ما تقتضيه الرؤيا، وهو الإخبار بالعام الثامن: {يُغَاثُ الناس} يحتمل أن يكون من الغيث يمطرون، أو من الغوث: أي يفرج الله عنهم: {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} أي يعصرون الزيتون والعنب والسمسم وغير ذلك مما يعصر: {وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ} قيل: هنا محذوف، وهو فرجع الرسول إلى الملك فقص عليه مقالة يوسف، فرأى علمه وعقله، فقال: ائتوني به: {قَالَ ارجع إلى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ} لما أمر الملك بإخراج يوسف من السجن، وإتيانه إليه أراد يوسف أن يبرئ نفسه مما نسب إليه، من مراودة امرأة العزيز عن نفسها، وأن يعلم الملك وغيره أنه سجن ظلمًا، فذكر طرفًا من قصته لينظر الملك فيها فيتبين له الأمر، وكان هذا الفعل من يوسف صبرًا وحلمًا، إذا لم يُجِبْ إلى الخروج من السجن ساعةَ دُعِيَ إلى ذلك بعد طول المدّة، ومع ذلك فإنه لم يذكر امرأة العزيز رعيًا لذمام زوجها وسترًا لها، بل ذكر النسوة التي قطعن أيديهنّ: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ} الآية جمع الملك النسوة وامرأة العزيز معهن، فسألهنّ عن قصة يوسف، وأسند المراودة إلى جميعهن، لأنه لم يكن عنده علم بأنّ امرأة العزيز هي التي راودته وحدها: {قُلْنَ حاش للَّهِ} تبرئة ليوسف أو تبرئة لأنفسهن من مراودته وتكون تبرئة ليوسف بقولهن: ما علمنا عليه من سوء: {الآن حَصْحَصَ الحق} اي تبين وظهر، ثم اعترفت على نفسها بالحق.
{ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} قيل: إنه من كلام امرأة العزيز متصلًا بما قبله، والضمير في يعلم وأخنه على هذا ليوسف عليه السلام أي: ليعلم يوسف أني لم أكذب عليه في حال غيبته، والإشارة بذلك إلى توقفه عن الخروج من السجن حتى تظهر براءته: {وَمَا أُبَرِّئ نفسي} اختلف أيضًا هل هو من كلام امرأة العزيز، أو من كلام يوسف، فإن كان من كلامها فهو اعتراف بعد الاعتراف، وإن كان من كلامه فهو اعتراف بما همْ به على وجه خطورة على قلبه، لا على وجه العزم والقصد، وقاله في عموم الأحوال على وجه التواضع: {إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسوء} النفس هنا للجنس والنفوس ثلاثة أنواع: أمارة بالسوء، ولوّامة وهي التي تلوم صاحبها، ومطمئنة: {إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي} استثناء من النفس إذ هي بمعنى النفوس، أي الأنفس المرحومة وهي المطمئنة، فما على هذا بمعنى الذي، ويحتمل أن تكون ظرفية أي إلا حين رحمة الله. اهـ.

.قال البيضاوي:

{وَقَالَ نِسْوَةٌ}
هي اسم لجمع امرأة وتأنيثه بهذا الاعتبار غير حقيقي ولذلك جرد فعله وضم النون لغة فيها. {فِى المدينة} ظرف لقال أي أشعن الحكاية في مصر، أو صفة نسوة وكن خمسًا وزوجة الحاجب والساقي والخباز والسجان وصاحب الدواب. {امرأت العزيز تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَّفْسِهِ} تطلب مواقعة غلامها إياها. و: {العزيز} بلسان العرب الملك وأصل فتى فتي لقولهم فتيان والفتوة شاذة. {قَدْ شَغَفَهَا حُبّا} شق شغاف قلبها وهو حجابه حتى وصل إلى فؤادها حبًا، ونصبه على التمييز لصرف الفعل عنه. وقرئ: {شعفها} من شعف البعير إذا هنأه بالقطران فأحرقه. {إِنَّا لَنَرَاهَا في ضلال مُّبِينٍ} في ضلال عن الرشد وبعد عن الصواب.
{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} باغتيابهن، وإنما سماه مكرًا لأنهن أخفينه كما يخفي الماكر مكره، أو قلن ذلك لتريهن يوسف أو لأنها استكتمتهن سرها فأفشينه عليها. {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} تدعوهن قيل دعت أربعين امرأة فيهن الخمس المذكورات. {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ} ما يتكئن عليه من الوسائد. {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا} حتى يتكئن والسكاكين بأيديهن فإذا خرج عليهن يبهتن ويشغلن عن نفوسهن فتقع أيديهن على أيديهن فيقطعنها فيبكتن بالحجة، أو يهاب يوسف مكرها إذا خرج وحده على أربعين امرأة في أيديهن الخناجر. وقيل متكأ طعامًا أو مجلس طعام فإنهم كانوا يتكئون للطعام والشراب ترفًا ولذلك نهى عنه. قال جميل:
فَظَللنا بِنِعْمَةٍ وَاتَكَأْنَا ** وَشَرِبْنَا الحَلاَلَ مِنْ قُللِهْ

وقيل المتكأ طعام يحز حزًا كأن القاطع يتكئ عليه بالسكين. وقرئ: {متكأ} بحذف الهمزة و{متكاء} بإشباع الفتحة كمنتزاح و{متكا} وهو الأترج أو ما يقطع من متك الشيء إذا بتكه و: {متكأ} من تكئ يتكأ إذا اتكأ. {وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} عظمنه وهبن حسنه الفائق. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت يوسف ليلة المعراج كالقمر ليلة البدر» وقيل كان يرى تلألؤ وجهه على الجدران. وقيل أكبرن بمعنى حضن من أكبرت المرأة إذا حاضت لأنها تدخل الكبر بالحيض، والهاء ضمير للمصدر أو ليوسف عليه الصلاة والسلام على حذف اللام أي حضن له من شدة الشبق كما قال المتنبي:
خَفِ اللّهَ وَاسْتُرْ ذَا الجَمَالَ بِبرقع ** فَإِنَ لحتَ حَاضَتْ فِي الخُدُورِ العَواتِقُ

{وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} جرحنها بالسكاكين من فرط الدهشة. {وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ} تنزيهًا له من صفات العجز وتعجبًا من قدرته على خلق مثله، وأصله حاشا كما قرأ أبو عمرو في الدرج فحذفت ألفه الأخيرة تخفيفًا وهو حرف يفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء، فوضع موضع التنزيه واللام للبيان كما في قولك سقيا لك. وقرئ: {حاش الله} بغير لام بمعنى براءة الله، و{حاشا لله} بالتنوين على تنزيله منزلة المصدر. وقيل {حاشا} فاعل من الحشا الذي هو الناحية وفاعله ضمير يوسف أي صار في ناحية الله مما يتوهم فيه. {مَا هذا بَشَرًا} لأن هذا الجمال غير معهود للبشر، وهو على لغة الحجاز في إعمال ما عمل ليس لمشاركتها في نفي الحال. وقرئ{بَشَرٌ} بالرفع على لغة تميم وبشرى أي بعبد مشترى لئيم. {إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} فإن الجمع بين الجمال الرائق والكمال الفائق والعصمة البالغة من خواص الملائكة، أو لأن جماله فوق جمال البشر ولا يفوقه فيه إِلا الملك.
{قَالَتْ فذلكن الذي لُمْتُنَّنِى فِيهِ} أي فهو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتنني في الافتنان به قبل أن تتصورنه حق تصوره، ولو تصورتنه بما عاينتن لعذرتنني أو فهذا هو الذي لمتني فيه فوضع ذلك موضع هذا رفعًا لمنزلة المشار إليه. {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم} فامتنع طلبًا للعصمة، أقرت لهن حين عرفت أنهن يعذرنها كي يعاونها على إلانة عريكته. {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ} أي ما آمر به، فحذف الجار أو أمري إياه بمعنى موجب أمري فيكون الضمير ليوسف. {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مّن الصاغرين} من الإذلاء وهو من صغر بالكسر يصغر صغرًا وصغارًا والصغير من صغر بالضم صغرًا. وقرئ: {لَّيَكُونُنَّ} وهو يخالف خط المصحف لأن النون كتبت فيه بالألف {نسفعًا} على حكم الوقف وذلك في الخفيفة لشبهها بالتنوين.
{قَالَ رَبّ السجن} وقرأ يعقوب بالفتح على المصدر. {أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ} أي آثر عندي من مؤاتاتها زنًا نظرًا إلى العاقبة وإن كان هذا مما تشتهيه النفس وذلك مما تكرهه، وإسناد الدعوة إليهن جميعًا لأنهن خوفنه من مخالفتها وزين له مطاوعتها. أو دعونه إلى أنفسهن، وقيل إنما ابتلي بالسجن لقوله هذا وإنما كان الأولى به أن يسأل الله العافية ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على من كان يسأل الصبر. {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى} وإن لم تصرف عني. {كَيْدَهُنَّ} في تحبيب ذلك إلي وتحسينه عندي بالتثبيت على العصمة. {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أمل إلى جانبهن أو إلى أنفسهن بطبعي ومقتضى شهوتي، والصبوة الميل إلى الهوى ومنه الصبا لأن النفوس تستطيبها وتميل إليها. وقرئ: {أَصْبُ} من الصبابة وهي الشوق. {وَأَكُن مّنَ الجاهلين} من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه فإن الحكيم لا يفعل القبيح، أو من الذين لا يعملون بما يعلمون فإنهم والجهال سواء.
{فاستجاب لَهُ رَبُّهُ} فأجاب الله دعاءه الذي تضمنه قوله: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ}، {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} فثبته بالعصمة حتى وطن نفسه على مشقة السجن وآثرها على اللذة المتضمنة للعصيان. {إِنَّهُ هُوَ السميع} لدعاء الملتجئين إليه. {العليم} بأحوالهم وما يصلحهم.
{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات} ثم ظهر للعزيز وأهله من بعد ما رأوا الشواهد الدالة على براءة يوسف كشهادة الصبي وقد القميص وقطع النساء أيديهن واستعصامه عنهن وفاعل: {بَدَا} مضمر يفسره. {لَيَسْجُنُنَّهُ حتى حِينٍ} وذلك لأنها خدعت زوجها وحملته على سجنه زمانًا حتى تبصر ما يكون منه، أو يحسب الناس أنه المجرم فلبث في السجن سبع سنين. وقرئ بالتاء على أن بعضهم خاطب به العزيز على التعظيم أو العزيز ومن يليه، وعتى بلغة هذيل.
{وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانَ} أي أدخل يوسف السجن واتفق أنه أدخل حينئذ آخران من عبيد الملك شرابيه وخبازه للاتهام بأنهما يريدان أن يسماه. {قَالَ أَحَدُهُمَا} يعني الشرابي. {إِنّى أَرَانِى} أي في المنام وهي حكاية حال ماضية. {أَعْصِرُ خَمْرًا} أي عنبًا وسماه خمرًا باعتبارِ ما يؤول إليه. {وَقَالَ الآخر} أي الخباز. {إِنّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ الطير مِنْهُ} تنهش منه. {نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} من الذين يحسنون تأويل الرؤيا، أو من العالمين وإنما قالا ذلك لأنهما رأياه في السجن يذكر الناس ويعبر رؤياهم، أو من المحسنين إلى أهل السجن فأحسن إلينا بتأويل ما رأينا إن كنت تعرفه.
{قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} أي بتأويل ما قصصتما علي، أو بتأويل الطعام يعني بيان ماهيته وكيفيته فإنه يشبه تفسير المشكل، كأنه أراد أن يدعوهما إلى التوحيد ويرشدهما إلى الطريق القويم قبل أن يسعف إلى ما سألاه منه كما هو طريقة الأنبياء والنازلين منازلهم من العلماء في الهداية والإرشاد، فقدم ما يكون معجزة له من الإِخبار بالغيب ليدلهما على صدقه في الدعوة والتعبير. {قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذلكما} أي ذلك التأويل. {مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى} بالإلهام والوحي وليس من قبيل التكهن أو التنجيم. {إِنّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالاخرة هُمْ كافرون} تعليل لما قبله أي علمني ذلك لأني تركت ملة أولئك.
{واتبعت مِلَّةَ ءابَاءي إبراهيم وإسحاق وَيَعْقُوبَ} أو كلام مبتدأ لتمهيد الدعوة وإظهار أنه من بيت النبوة لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه والوثوق عليه، ولذلك جوز للخامل أن يصف نفسه حتى يعرف فيقتبس منه، وتكرير الضمير للدلالة على اختصاصهم وتأكيد كفرهم بالآخرة. {مَا كَانَ لَنَا} ما صح لنا معشر الأنبياء. {أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَئ} أي شيء كان. {ذلك} أي التوحيد. {مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا} بالوحي. {وَعَلَى الناس} وعلى سائر الناس يبعثنا لإرشادهم وتثبيتهم عليه. {ولكن أَكْثَرَ الناس} المبعوث إليهم. {لاَ يَشْكُرُونَ} هذا الفضل فيعرضون عنه ولا يتنبهون، أو من فضل الله علينا وعليهم بنصب الدلائل وإنزال الآيات ولكن أكثرهم لا ينظرون إليها ولا يستدلون بها فيلغونها كمن يكفر النعمة ولا يشكرها.
{ياصاحبى السجن} أي يا ساكنيه، أو يا صاحبي فيه فأضافهما إليه على الاتساع كقوله:
يَا سَارِقَ اللْيلَةَ أَهْلَ الدَّارِ

{أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ} شتى متعددة متساوية الأقدام.
{خَيْرٌ أَمِ الله الواحد} المتوحد بالألوهية. {القهار} الغالب الذي لا يعادله ولا يقاومه غيره.
{مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ} خطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر. {إِلآَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} أي إلا أشياء باعتبار أسام أطلقتم عليها من غير حجة تدل على تحقق مسمياتها فيها فكأنكم لا تعبدون إلا الأسماء المجردة. والمعنى أنكم سميتم ما لم يدل على استحقاقه الألوهية عقل ولا نقل آلهة، ثم أخذتم تعبدونها باعتبار ما تطلقون عليها. {إِنِ الحكم} ما الحكم في أمر العبادة. {إلا لِلَّهِ} لأنه المستحق لها بالذات من حيث إنه الواجب لذاته الموجد للكل والمالك لأمره. {أَمرَ} على لسان أنبيائه. {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} الذي دلت عليه الحجج. {ذلك الدين القيم} الحق وأنتم لا تميزون المعوج عن القويم، وهذا من التدرج في الدعوة وإلزام الحجة، بين لهم أولًا رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة على طريق الخطابة، ثم برهن على أن ما يسمونها آلهة ويعبدونها لا تستحق الالهية فإن استحقاق العبادة إما بالذات وإما بالغير وكلا القسمين منتف عنها، ثم نص على ما هو الحق القويم والدين المستقيم الذي لا يقتضي العقل غيره ولا يرتضي العلم دونه. {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} فيخبطون في جهالاتهم.